النقابات واستثمار الرصيد النضالي


من بين جميع المؤسسات والمنظمات في تونس لا يختلف اثنان على أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو الأكثر فعالية وحضورا في الحياة السياسية، وهو الوحيد بينها الذي لا يمكن إسقاطه من القرارات المصيرية للبلاد. فمن أين يستمد الاتحاد العام التونسي للشغل هذا الوزن الذي لديه الآن؟ ولماذا تراهن عليه دون غيره من المؤسسات أغلب القوى السياسية سواء في محاولة إخضاعه أو العمل من بوابته؟ ثم كيف أخذ تلك الهالة من القداسة التي يضفيها البعض عليه، خاصة فيما يخص علاقته بالسلطة ؟ ومن أين له القدرة أن يتحول إلى سلطة موازية ؟ لكي نستطيع تطوير إجابة عن هذه التساؤلات علينا أن نعيد تركيب عناصر تاريخ النقابة ونفهم ظاهرة العمل النقابي في بلادنا. سنعالج في هذه المقالة الأولى الإطار العام للنضال النقابي في العالم وتسرّبها إلى تونس، ثم العوامل التي جعلت الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة نقابية لها شرعية المشاركة في صنع القرار في تونس.





في نشأة العمل النقابي


تزامن ظهور العمل النقابي في العالم مع ترسخ أقدام الثورة الصناعية في بريطانيا وفرنسا. لقد أفرزت المشاريع الكبرى كتلا اجتماعية جديدة على أساس المهنة، وظهرت بمرور الزمن طبقة عمالية عريضة اقتضاها تطور وسائل الإنتاج. متى أحست مجموعة العمال بالمصير والمصالح المشتركة، وتحت ضغط الاستغلال وعدم تكافؤ توزيع الثروة، بدأت فكرة النقابة بالبروز كضرورة بلورتها الظروف من أجل إيجاد مراكز وسيطة بين العامل والمشغل ثم بين الفرد والدولة في وقت لاحق، إذن يمكن اعتبارها تطوّرا معقولا في علاقات الإنتاج.

"فقبل أن تهتدي حركة نضال الطبقة العاملة إلى بعث النقابات كإطار للدفاع عن حقوقها، كان العمال يوجهون غضبهم لآلات الإنتاج التي اعتقدوا أنها سبب مآسيهم ولم يدركوا أن السبب الحقيقي في ذلك إنما هو نمط الإنتاج برمته وتناقض مصالحهم مع مصالح الملاكين الرأسماليين".

وأمام انتشار وتوسع نضال العمال اضطرّ الملاكون للاعتراف بحق التنظم النقابي، وثمة من يعتقد أن هذه التنازلات قدّمت حتى لا يتجذر الوعي العمالي وينتقل سعيهم من أجل تحسين أوضاعهم إلى العمل على القضاء على النظام تماما فكانت النقابات في مصلحة الطرفين، مساعدة في تزييت محرّكات النظام الرأسمالي مجنّبة إياه الانفجار من جراء تناقضاته الداخلية. كانت نتيجة هذا الاعتراف أن هدأت الكثير من الثورية وانحصر معظم النضال العمالي في سقف المطلبية والتحسينات المادية، ومع بداية القرن العشرين صارت النقابة في الدول المصنعة إطارا للتفاهم السلمي وللتعاون الطبقي الذي يبدو من دونها غير متاح.

كان القرن التاسع عشر عصر الأيديولوجيات والثورات بامتياز، وقد بدا واضحا أنه لا يمكن فصل تحقيق نتائج على المستوى الاجتماعي عن التغيير على المستوى السياسي لذلك سوف تتداخل النشاطات النقابية بالسياسة. إلا أن تيارين سيخترقان العمل النقابي، أحدهما يدعو إلى ضرورة فصل العمل النقابي عن السياسي، فيما يدعو الشق الثاني لحتمية الجمع بينهما، وكلا الموقفين لا يخلو من خدمة أطراف هم خارج الكتلة العمالية.





التقاطعات الايديولوجية


تزامن تأسيس النقابات المهنية مع صعود تيارات فكرية في أوروبا القرن التاسع عشر، أهمها القومية والفوضوية والماركسية ستجد جميعها في العمل النقابي ميادين عمل لها داخل خارطة التغيير الاجتماعي وفرصة لإيصال أصواتها للشعب والسلطة. فمثلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبعد أن تنظمت الايدولوجيا الماركسية في أحزاب بدأ يحصل الالتباس بين العمل النقابي والدعاية الإيديولوجية نظرا لتقارب المطالب ووجود الرأسمالية كخصم مشترك.

سيترسخ هذا الالتباس أكثر بعد انتصار الثورة في روسيا في بدايات القرن العشرين ، وقتها تحولت النقابات إلى أجهزة دعاية داخل منظومة الحكم الاشتراكي. وباقترابها من السياسة والطامعين في مواقع النفوذ تطورت وسائل الضغط في يد النقابيين حتى أصبحت النقابة في عالمنا المعاصر واحدة من أهم القوى المجتمعية اللازمة لتحقيق التوازن بين قطبي السلطة: الحاكم والشعب.

كثيرا ما يتم تناول موضوع العمل النقابي بكثير من الحيطة والحذر إذ يعتبر الكثير من المؤرخين أنه لم يكن أبدا أمرا عفويا، فالنقابات إنما هي أدوات في يد قوى اجتماعية معينة بمصالح غير معلنة تبحث على غطاء من الشرعية لزعزعة سلطة الدولة أو تقاسم السلطة معها، ولقد وجدت في النضال الاجتماعي ضالتها. غالبا ما تتهم بذلك منظمات مثل الماسونية والمافيا أو عرقيات مثل اليهود أو إيديولوجيات مثل الفوضوية أو ظواهر كالاستعمار بحثا عن تطبيق مبدأ "فرق تسد" وهي وسيلة للتدخل الأجنبي غير المباشر في شؤون وطن ما.

تبنى هذه النظريات المفكرون الألمان وجاء هتلر ليجسدها على أرض الواقع حين حل كل النقابات في ألمانيا الثلاثينات معتبرا أنها تساهم في تشتيت السلطة مما يترتب عنه تدهور نسق الإنتاجية في بلاد تحتاج لتركيز كل جهودها للبناء والتنمية. اعتبر نقابيو العالم أن سهولة ضرب العمل النقابي في ألمانيا يثبت أن النقابة لا يمكن أن تكون منحصرة بالحدود الوطنية لذلك تقرر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تأسيس الاتحاد النقابي العالمي الذي سوف يكون دعامة لكل نقابة قطرية وترسيخا لموقع النقابة في العالم كمؤسسة لا يمكن الاستغناء عنها في أي بلد.

عموما تلوّن مفهوم النقابة حسب الظروف التاريخية، فدورها يتراوح بين الدفاع عن حقوق العمال وتحقيق مطالبهم والوساطة بين الطبقة الشغيلة والدولة أو أصحاب وسائل الإنتاج وكذلك قد يكون دورها تأطيريا أو تحسيسيا من خلال تمرير خطط التنمية ومشاريع الدولة الاقتصادية علاوة على الدور الاجتماعي والثقافي، فيما تخترق في أحيان كثيرة لتصبح أداة من أدوات السلطة.





تسرّب النقابيات إلى تونس


نشأت الطبقة العمالية في تونس بفعل الاستعمار (قدّر عدد العمال في مطلع القرن العشرين بـ 2620 عامل فرنسي – 2000 مالطي – 18631 ايطالي و62163 عامل تونس) وبدأت تتزايد شيئا فشيئا خاصة حين لم يجد الحرفيون التونسيون سبلا لمنافسة البضائع الفرنسية فاضطروا لأن يصبحوا عمالا في المشاريع الفرنسية.

في أولى أعوام الحماية كان العمل النقابي ممنوعا إلا أن فرنسا ولأغراض استعمارية أهمها تشجيع الهجرة إلى تونس كوّنت عام 1894 اتحاد العمال الفرنسي برئاسة فكتور دي كانيار، وكذلك فعل الايطاليون فكانت النقابات عبارة عن تكتلات عمالية وقومية في الوقت نفسه.

أول إضراب في البلاد كان في 8 ديسمبر 1900 ، وقام به عمال السكك الحديد للمطالبة بالزيادة في الأجور وكان أهم تحرك عمالي سنة 1904 احتفالا بعيد الشغل لأول مرة وتم تنظيم مظاهرات في اليوم الموالي ووقتها امتزجت الجنسيات وظهر العمل النقابي قاسما مشتركا بين العمال بقطع النظر عن الجنسية. واجهت فرنسا ذلك بالعودة لقانون 1884 بعدم الاعتراف بالحق النقابي، لكن ذلك لم يمنع عودة الاضرابات في أواخر 1909. كانت تجربة الاضرابات تشعر العمال بأنفسهم كقوة ضغط كلما اتحدوا وكانت هذه السنوات هي أولى سنوات تسرّب الفكر الاشتراكي لتونس، كما حملت معها بوادر الحركة الوطنية بإنشاء "حركة الشباب التونسي".

تسارعت الأحداث خاصة بتوتر الأوضاع بين المعمرين والتونسيين. كانت أحداث الجلاز في نوفمبر 1911 شرارة لن تلبث أن تتوسع رقعتها، وكانت مناسبة لانتشار النزعة الوطنية لدى عامة الشعب. في 9 فيفري 1912 داست عربة ترامواي يقودها ايطالي طفلا تونسيا وتزامنت مع احتلال ايطاليا لليبيا، فقرر التونسيون مقاطعة ركوب الترامواي (قرار من علي باش حانبة) وكانت هذه الحادثة فرصة لتقارب النخب السياسية مع العمال، إلا أن دور النقابة كان متذبذبا فلم يتحقق الكثير للتونسيين.

هدأت الحركة النقابية زمن الحرب العالمية الأولى وقد خرجت منها فرنسا منهوكة اقتصاديا وبشريا. لم يكن أمامها من حلول سوى تكثيف استغلالها للمستعمرات لإعادة بناء اقتصادها ممّا جعل الطبقة العمالية تتوسع أكثر فأكثر. في الأثناء اشتد عود النخبة التونسية، فبدأت الأحزاب في التكون إذ تأسس الحزب الدستوري ثم الحزب الشيوعي التونسي 1920 الذي سيمثل رافدا مهما للحراك العمالي.

وكذلك تعددت النقابات بين سنتي 1919 و1921 وأصبحت الإضرابات تعبيرا رئيسيا عن المطالب. إلا أن تشتت العمال بين النقابات أبقى النتائج محدودة، لذلك قررت كل النقابات أن تتجمع في الكنفدرالية العامة للشغل "سي جي تي" التابعة للنقابة المركزية في فرنسا. ساهمت هذه الخطوة في تكوّن العديد من التونسيين نقابيا وسيكتشف هؤلاء بعد مدة أنهم خارج حسابات النقابات الفرنسية، وأنها لا تدافع سوى عن مصالح الأجانب.





بوادر تونسة العمل النقابي


في خضم أهم تحرك نقابي مستقل للعمال التونسيين -إضرابات عمال الرصيف بتونس وبنزرت- الذي أطره محمد علي الحامي، استغل هذا الأخير الفرصة حين عاين قوة العمال التونسيين على مستوى التنظم والتضحية، استغل الفرصة لبعث منظمة نقابية تونسية في أكتوبر 1924 فكانت جامعة عموم العملة التونسيين (وهي أول منظمة نقابية بمبادرة من رجل من العالم الثالث).

وجدت السلطات الفرنسية نفسها أمام الأمر الواقع، لأن كل شيء تم بصفة قانونية، ولكنها حين اكتشفت أن التنظيم أصبح يحرك العمال التونسيين توجست خيفة كي لا يزيد في مراكمة القدرات التنظيمية، فقررت أن تتجه نحو الرأس المدبر واعتقل محمد علي الحامي في 5 فيفري من السنة الموالية ثم نفي في نوفمبر وضاع بعده مشروع النقابة رغم محاولات الطاهر الحداد الذي حاول أن يكمل مسيرة الحامي خاصة على مستوى التعبئة والتنظير.

شمل التعنت الفرنسي بعد ذلك كل النقابات، ففي أزمة 1929 التي تسببت في التضخم المالي وارتفاع الأسعار وعدم وجود تطور موازي للأجور ونظرا لأن نسق الاحتجاجات سوف يتسارع عادت السلطات لسحب الشرعية من العمل النقابي لينتكس العمل النقابي لمدة.





السطوة الفرنسية


في نوفمبر 1932 صدر مرسوم الاعتراف بالحق النقابي من جديد، وقد وضع الفرنسيون في حسبانهم ما حصل من قبل لذلك وضعوا العراقيل القانونية أمام انشاء النقابات، لم تتمكن سوى نقابتين فرنسيين من الظهور وهما "سي جي تي" و"الكنفدرالية العامة للعمل الموحد". في نفس السنة وصلت الجبهة الشعبية للحكم في فرنسا بتوجهاتها اليسارية مما أمد التحركات النقابية قليلا من المساحة لكي تتطور.

كانت بداية الثلاثينات عموما فترة هادئة، فضلت النخبة التونسية الركون للإصلاحات الداخلية بعد أن ظهر عجزها على مقارعة الاستعمار بالوسائل القديمة، وكان ظهور جيل جديد من أبناء المدن الداخلية والذي درسوا في الجامعات الفرنسية مؤشرا على تعاط جديد مع كل المسائل. انقسم الحزب الدستوري الى حزبين، وكان الحزب الدستوري الجديد يعتبر العامل التونسي رهانا أساسيا في مقاربته لبلوغ الأهداف الوطنية.

يوم 2 مارس 1937 تنظم إضراب عامّ بمناجم الفسفاط تحت رعاية "سي جي تي" الا أن هيمنة الفرنسيين جعلت المطالب اجتماعية بحتة، في حين أن أسباب الاضراب كانت في إطار السخط على الاستعمار. ولأن "سي جي تي" لم تعط المسألة الوطنية حجمها وهي في أوجها، قرر العمال التونسيون إحياء جامعة عموم العملة التونسيين في 27 أفريل 1937 وانتخب بلقاسم القناوي كاتبا عاما للجامعة وظهر تنافس بينها وبين "سي جي تي" لاستقطاب العمال. إلا أن نقطة الضعف التي جعلت هذه التجربة تموت في المهد كانت عدم التنسيق بين النقابة والقوى السياسية وخاصة الحزب الدستوري الجديد الذي استقطب أغلب الفاعلين في القضية الوطنية.

كان بلقاسم القناوي ضد إقحام النقابة في التجاذب السياسي، لذلك سعى الحزب لتغيير القيادة لتصبح النقابة مسايرة لخطه السياسي، ففي مؤتمر جانفي 1938 انتخب الهادي نويرة المقرّب من الحزب الدستوري الجديد أمينا عاما للجامعة فيما رفع بلقاسم القناوي الأمر إلى القضاء معتبرا أن ما تم غير شرعي، فانتهزت فرنسا الخلافات لتقضي على المنظمة النقابية من جديد. وهكذا أجهز على ثاني تجربة نقابية تونسية وظلت "سي جي تي" وحدها تعمل في الساحة النقابية إلى أن جاءت حكومة فيشي في فرنسا عام 1940 فحلتها هي الاخرى.

سيكون الدرس الذي سيتعلمه التونسيون انه لا يمكن الفصل بصفة قطعية بين النضال الاجتماعي والنضال السياسي، وتحوّل هذا الموقف إلى منهج لدى النقابيين التونسيين لا يتم الحياد عنه إلا نادرا.

على مستوى آخر، كان الحزب الشيوعي التونسي من أول الداعين للاستقلال في العشرينات إلا أن ظروف الحرب العالمية الثانية ووقوع تونس في بؤرة الصدامات جعلت أولوياته محاربة النازية وقوات المحور وارتبط مباشرة بالأحزاب اليسارية الفرنسية بشدة مما سهل احتواءه من قبل قوات الاستعمار.

سنة 1943 أعيد احياء "سي جي تي" عند خروج قوات المحور، وحاول التونسيون اسماع أصواتهم من خلالها، حتى أن عددا من التونسيين – ومنهم فرحات حشاد – ترشحوا في انتخابات "سي جي تي" الا أنهم خسروا وظهر تفوق الفرنسيين أو المنتمين للحزب الشيوعي الذي أصبح يدعو للتقارب التونسي الفرنسي، وأن مصلحة العامل التونسي مع العامل في أي مكان أكثر من التونسي الغير عامل. ستكون هذه الأفكار أخطر ما سيهدد القضية الوطنية وقتها.





حشاد يضخ الدماء في العمل النقابي والحركة الوطنية


بدخول فرحات حشاد المشهد الوطني ستنقلب كل المعطيات ، نظرا لروح المبادرة التي يتحلى بها ووضوح الرؤية لديه وخاصة لتمكنه من أدوات التغيير. بدأ فرحات حشاد العمل في صفاقس بإنشاء اتحاد النقابات المستقلة في 2 نوفمبر 1944 وبدأ التوسع أولا نحو الجنوب، ومنه قام بتأسيس "اتحاد النقابات المستقلة بالشمال" في تونس العاصمة. في ماي 1945 وبعد أن جمع حوله كتلة عمالية كبيرة قرّر إنشاء "الاتحاد العام التونسي للشغل" في 20 جانفي 1946 وانتخب كاتبا عاما له.

مع بروز الاتحاد النقابي الجديد بدأ "سي جي تي" يفتقد إشعاعه وأنصاره حتى اضطر للانسلاخ من النقابة المركزية في فرنسا في أكتوبر 1946 فأصبح يدعى "الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي" وكان العداء قائما في البداية بين المنظمتين النقابيتين إلا أن فرحات حشاد كان مصرا على الوحدة النقابية وتنسيق التحركات لئلا تضيع المطالب الاجتماعية والتي تمثل خطوة ضرورية نحو مطالب الشعب الوطنية.

علاوة على الوفاق النقابي، كان الاتحاد مقربا من الفئات والمنظمات الوطنية كالتجار والحرفيين والفلاحين وأعضاء الحزب الدستوري الجديد والزيتونيين ، إذ ترأس الفاضل بن عاشور المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام التونسي للشغل، غير أن النقابيين كانوا حاسمين في القطيعة مع الحزب الدستوري القديم نظرا لخذلانه تجربة محمد علي الحامي وكان هذا الاختيار هو الذي رجّح نهائيا كفة الحزب الجديد على المستوى الشعبي وسوف يبقى زعماء الحزب يتذكرون هذا الجميل علاوة على دور الاتحاد الحاسم في الفتنة اليوسفية بعد ذلك حين جاء الحبيب عاشور في صف بورقيبة.

بعد تنظيم الشأن الداخلي أصبحت تحالفات الاتحاد ذات صبغة عالمية في محاولة جريئة لتجاوز الإطار الفرنسي. امام هذه الخطوات الثابتة، بدأت الآلة الاستعمارية ترتبك أمام تنامي نفوذ المنظمة النقابية فعرف الاتحاد مضايقة الاستعمار المستمرة، ولكن فرحات حشاد كان قد أخذ الدروس من التجارب السابقة فلم يترك للسلطات الا استعمال العنف المفرط لقمع الإضرابات والمظاهرات وكان أهمها أحداث 5 أوت 1947 بصفاقس وأحداث النفيضة 1950.

في الخمسينات أصبح للاتحاد برنامج اقتصادي واجتماعي وأحيانا سياسي متكامل للخروج بالبلاد من مأزقها ، وأصبح له الدور الرئيسي في الحركة الوطنية نظرا لاعتقال أو نفي أغلب الزعامات السياسية وللموقع الذي احتله فرحات حشاد في ضمير الشعب التونسي متجاوزا دوره النقابي.

ساهم الاتحاد في تنظيم الاحتجاجات وترتيب الساحة السياسية وحتى في الكفاح المسلح وكان دوره رئيسيا في التعريف بالقضية التونسية في المنظمات العالمية. لم يعد أمام الاستعمار إلا لعب ورقة التصفية الجسدية وإلا ستفلت القاعدة الشعبية من يدها فتم اغتيال فرحات حشاد في ديسمبر 1952.





الاتحاد بعد حشاد


ستتأثر النقابة وكذلك الحركة الوطنية وتتقلص فاعليتهما طوال عامين. إلا أن جيلا من النقابيين تكوّن على يدي فرحات حشاد سيظهر بعدها ليكمل المسيرة ونظرا للحجم الجديد للاتحاد بعد استشهاد حشاد سيستثمر الجيل الموالي ذلك على المستويين الاجتماعي والسياسي فيما يشبه استثمار التركة في غياب صانع الانجاز الأول.

ستكون سنوات حشاد بالأساس هي الرصيد النضالي الذي سيمكّن الاتحاد العام التونسي للشغل من موقع مهم جدا في تاريخ تونس المستقلة وتماما مثل الحزب الدستوري فان حجم المساهمة في تحقيق الاستقلال سيحدد نصيبه من المكتسبات والمواقع في دولة ما بعد 1956.

يخترق تونس منذ الثورة جدال حول دور النقابة في البلاد، هل هي تعمل في إطار المصلحة العامة أم أن ما يحركها ليست سوى مصالح ضيقة؟ لقد رأينا كيف أن العمل النقابي حين بعث في تونس كان لأغراض استعمارية وساهم في تشتيت العمل الوطني، ورأينا أيضا كيف طوّعه فرحات حشاد للقضية الوطنية فأصبح أنجع وسائلها. نستنتج من ذلك أن النقابة قوة في خدمة من يوظفها، وهي وسيلة لا يمكن أن ننزع عليها أي صفة اطلاقية، لا بخصوص دورها ولا بخصوص جدواها. ربما لا يمكن تطبيق هذه المعايير إلا على الأغراض التي يوظف من أجلها العمل النقابي، وهنا ينبغي أن يدور الجدال اليوم.


شوقي بن حسن







Commentaires